الماوردي (حفظ الله دينك، كما حفظت علينا ديننا).. كلمة قالها الخليفة العباسي (القادر بالله) وذلك بعد أن قرأ كتابًا للماوردي في الفقه فأعجب به وأثنى عليه، فمن ذلك الرجل الذي حفظ دين الإسلام؟! في شوارع البصرة وفي زمن العباسيين، كان هناك طفل صغير لم يتجاوز الرابعة من عمره، ورث عن أبيه صناعة (ماء الورد) يقضي النهار كله أمام أبواب المساجد، يبيع ماء الورد لطلاب العلم ورواد المدارس مقابل دراهم معدودة، يتقوَّى بها على متاعب الحياة. وقد أصبح هذا الصبي من قادة الفكر وحملة مشاعل العلم ومن أبرز رجال السياسة، وقاضيًا من أعدل القضاة، وأديبًا ناضجًا ومؤلفًا عظيمًا في شتى فروع ثقافة أمته.. إنه (أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي) الشهير بالماوردي.. ولد عام 364هـ-974م في مدينة البصرة، ونشأ فيها يسقي طلاب العلم ماء الورد، ويرتوي من علم العلماء المشهورين في زمانه، وظل في البصرة حتى سمع أن عالمًا ببغداد يقصده الطلاب من كافة الأنحاء هو (أبو حامد الإسفراييني) فتعلم على يديه الفقه والعلوم الشرعية، وأصبح من مريديه، ومازال يرحل ويتنقل في بلاد المسلمين طلبًا للمعرفة حتى عاد إلى بغداد، ليبدأ فيها رحلة الدرس والتأليف، يتلقى عنه الطلاب القادمون من بلاد كثيرة. وتولى الماوردي القضاء في البلاد التي رحل إليها، كما تولى وظيفة قاضي القضاة في نيسابور، وذاعت شهرته، ولقب بأقضى القضاة سنة 429هـ، وكان أول من لقب بذلك في تاريخ الإسلام، وعلم الماوردي أن توليه القضاء ليس تشريفًا له، ولكنها رسالة وأمانة في عنقه؛ فكان يتمهل قبل أن يصدر أحكامه، ويقرأ كتاب الله وأحاديث رسوله، حتى لا يضل الطريق؛ فيقضي بحكم فيه ظلم لأحد، كما كان جريئًا عادلاً، لا تأخذه في الله لومة لائم، يحكم بالحق حتى على أولي القربى وأصحاب السلطان. فقد أمر الخليفة العباسي أن يلقب (جلال الدين بن بويه) بلقب شاهنشاه الأعظم ملك الملوك، واختلف الفقهاء ما بين موافق، وغير موافق لأن هذا اللقب لا يجوز إلا في حق الله، وانحاز عوام الناس إلى رأي الفقهاء المانعين، وانتظر الجميع رأي القاضي الماوردي الذي كانت تربطه بجلال الدين البويهي صلة ود وصداقة؛ وظهرت شجاعة الماوردي، فانحاز إلى جانب الحق، وضرب مثلا فريدًا في الثبات على الحق، فأفتى بالمنع، وأعجب جلال الدين بصدقه وشجاعته فقال له: (أنا أعلم أنك لو حابيت أحدًا لحابيتني، لما بيني وبينك من أواصر المحبة، وما حملك إلا الدين، فزاد بذلك محلك عندي). ولما ذاعت شهرة الماوردي أثناء فترة إقامته ببغداد لما عُرِفَ عنه من فضل وعلم، وحسن رأي، وجلالة قدر؛ اختير ليكون سفيرًا بين رجال الدولة في بغداد، وبني بويه في أصبهان من سنة 381هـ/ 991م إلى 422هـ/ 1030م، وكان لقربه من الحياة السياسية في عصره، واختلاطه بالأمراء والوزراء أثر كبير، فقام بكتابة العديد من المؤلفات السياسية الرائعة التي صدرت عن خبرة كبيرة ودراسة واسعة مثل (الأحكام السلطانية والولايات الدينية) وكانت له مكانة ممتازة عند الأمراء والملوك في عصره، فكان يتصدر المراسم والاحتفالات الرسمية، وأسندوا إليه عقد قران الخليفة القائم بأمر الله على خديجة بنت داود أخي السلطان (طغرلبك) سنة 448هـ. واشتهر الماوردي بالحلم والوقار والأدب والتعفف عن سؤال غيره، كما عرف عنه التدين والتنزه عن اللهو والهزل، وشهد المعاصرون للماوردي بالصلاح والتقوى، وهم محقون في ذلك، فقد أخفى مؤلفاته عن الناس في عصره خوفًا من أن يكون قد خالطها الرياء وهو يؤلفها، وعهد إلى صديقٍ له ألا يظهرها إلا بعد وفاته، وترك الماوردي العديد من المؤلفات منها: كتاب في التفسير و(الحاوي) في الفقه الشافعي و(قانون الوزارة وسياسة الملك) و(أدب الدنيا والدين). والماوردي مفكر سياسي إسلامي يعد من أوائل من اهتموا بعلم السياسة وأصول الحكم الإسلامي، يأخذ أفكاره وآراءه من وحي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وظل الماوردي في خدمة العلم إلى أن فاضت روحه إلى بارئها في يوم الثلاثاء آخر شهر ربيع الأول سنة 450هـ، وحضر جنازته جمع من الخطباء والعلماء والقضاة يودعونه إلى مثواه الأخير.